السلبية الأولى ـ عدم وضوح الرؤيا الإسلامية:
لعل أول سلبية, بل أخطرها على ثقافتنا هي أن الصلة بين حبات العقد الثقافي مفقودة عند الغالبية في مجتمعنا العربي, بل الإسلامي, والأخطر من هذا أن فقدان هذه الصلة قد منى بها كثر من مفكري, وكتاب هذه الثقافة وبعض المدركين منهم لحبات العقد قد لا يبذلون المحاولات العلمية الجردة للربط بينها في نظام متكامل متناسق من الفكر المرتبط بجسم المجتمع.
والأكثر خطورة من هذا, وذاك أن تجد مناهضين لهذه الثقافة يتولون, وينبرون لمحاولات إضعافها, وتضييع كثير من حياتها, وإخفاء معالم الربط بينها.
بل أدهى من ذلك, وأمر أن سيطر على كثير من المفكرين موجة اتهام للمفكرين الذين يبحثون في أصالة ثقافتنا بالجمود, والرجعية, والنكوص إلى الوراء.
وتحت مظلة من هذه السهام الموجهة إليها, والحراب النافذة في صدورها تدخل المؤثرات الثقافية الغازية لتجديدها منهكة القوى, جريحة بأيدي أبنائها, وأعدائها على حد سواء, فلا تلبث أن تأخذ جرعات من (مخدرات) هذه الثقافات المعادية فيتخدر جسمها فاقداً الوعي, والإحساس فلا يلبث المشايعون للثقافات الغازية أن يراهقوا في اقتباس عناصرها, فيحلون محل قيمنا قيمها, ومحل عاداتنا عاداتها, وتقاليدنا تقاليدها, وفكرنا فكرها. وقد تتقبل بعض عناصر بنية ثقافتنا هذا الإحلال وهي في وطأة التخدير. فإذا ما أفاقت لحين وجدت نفسها, وقد دخلها(جسم غريب), فيبدأ الصراع, وتحمى المعركة الثقافية. والمحصلة هي ضياع وقت الأمة, وجهدها, فلا تعكف على التفكير الهادئ. ويضيع عليها فرصة الزمن المتاح, والإمكانات الوفيرة فيسبقها السابقون في مضمار المعركة الثقافية, والحضارية الدائرة بينها وبينهم؛ على الأقل في دائرة الوهم لا في نطاق الحقيقة.
إن أخطر ما تصاب به أمة من الأمم أن تفقد وعيها: فلا تحدد إطار فكرها العام. لأن تحديد هذا الإطار معناه تحديد لمجموعة من القيم المرتبطة بمجالات الحياة المختلفة, وبنيانها, وعناصرها. وتحديد القيم معناه تحديد للإطار المرجعي أو لمجموعة المعايير, والموازين التي توزن بها القوانين, والتشريعات, والقرارات واللوائح المقننة, والمحددة, والموصفة لكل عمل, ولكل سلوك يحدث في مجال كل عمل من هذه الأعمال, وهي تلك الأعمال التي تتضمنها جميع النظم الاجتماعية التي تكون النظام الاجتماعي العام للمجتمع.
ومعنى ذلك أن العقد الفكري المنفرط تضيع في نطاقه روابط الأعمال, والإدرار المختلفة في المجتمع. وهذا في حد ذاته هو الذي فتح الباب على مصراعيه لكل وافد ثقافي. ولكل غاز ثقافي, فترقع ثوبنا الثقافي, وعندما يحاول المصلحون رتقه يزداد تمزقاً في أيديهم.
إذن يصبح ـ والحال هكذا ـ خلع هذا الثوب المرقع أمراً حتمياً. كما يصبح نسج نسيج ثقافي متين, وأصيل أمراً أكثر حتمية, لأن المجتمعات لا تستطيع العيش لحظة ما بدون ثقافة, وبدون فكر أصيل متماسك الأفكار في نظام متناسق.
ويصبح الأمر الذي يحتاج إلى مواجهة هو التوفيق في الوصول إلى صيغة لمعادلة صعبة تحتمها الظروف والتحديات المعاصرة, وتضعها في مواجهة الثقافة الإسلامية. فإما أن يثبت أن ثقافتنا الإسلامية قادرة على المعاصرة وقيادة المجتمع الإسلامي إلى درجات من الرقى لا تصل إليها الثقافات الأخرى بأية وسائل, وأما أن تخلى سبيلها لهذه الثقافات الوافدة الغازية تعمل ما تشاء أن تفعله بنا.
والاختيار الثاني اختيار مرفوض, وغير مقبول لسبب بسيط أن بلاده نفسها قد ضاعت في نطاقه, وزاغ بصرها, وتمزقت روحها. وهي تبحث عن بديل ينقذها من التردي, والتدني الذي نتهاوى إليه.
وقد كان من الممكن أن ينقذها فكرنا الإسلامي, وثقافتنا الإسلامية لو أننا قد استوعبنا في هذا العصر, وقدمنا نماذج حية معاصرة لمجتمعنا مثالية تقود العالم المعاصر, وتأخذ بيد الثقافة الغربية المترنحة.
أما الاختيار الأول فهو المنقذ لنا, والبشرية جمعاء من هذا التردي والتدني الفكري, والثقافي الإنسانيين.
لقد كان في كل فترة من فترات التاريخ البشري تتردى فيها البشرية, وتتوه في غياهب الظلمات تتنزل عليها رسالة من السماء داعية أباها إلى الطريق المستقيم.
أما وقد نزلت آخر الرسالات, فليس للبشرية أن تنتظر هطول الخير من السماء مرة أخرى, وبيدها أكمل الرسالات وأتمها. وما على العارفين بدررها وبمفاتيحها إلا أن يستمسكوا بها, وأن يقدموها في نماذج مجسدة للبشرية جمعاء ولذلك فإن صياغة حياتنا الاجتماعية وفقاً لهذه الرسالة الإسلامية معناه إنقاذ لنا, وللبشرية جمعاء.
وليس من مدخل لهذه الصياغة إلا بناء الإنسان المسلم, وبناء المجتمع المسلم وفقاً لمفاهيم التربية, ومناهجها, وأساليبها, ووسائلها, في الإسلام.