ولقد عرفوا العولمة بتعريف آخر، قالوا: (العولمة اسم شمولي مصطلح للدلالة على حقبة نفوذ تتميز بأدوات أوسع من الأدوات الاقتصادية، تهم الثقافة والحضارة حتى البيئة ـ مع احتفاظ الاقتصاد بعمودها الفقري ـ لديها قدرة التأثير على العالم، وذلك بغلبة من الرأسمالية الغربية التي تجتاح العالم وتسيطر على أسواقه المالية والفكرية). وعرفوا العولمة بتعريف ثالث، قالوا: (العولمة هي الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين: الزماني والمكاني، مما يجعل العالم يبدو صغيراً إلى حد يُحتّم على البشر التقارب بعضهم من بعض). وعرفوها بتعريف رابع وهو: (التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو انتماء إلى وطن محدد، أو لدولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية). فقالوا: إن المفهوم الدقيق للعولمة يعني هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره في الصميم مضافاً إلى انتشاره في الظاهر أيضاً، وبعبارة أخرى واضحة يعني: هيمنة النمط الرأسمالي الأمريكي، ليتلازم معنى العولمة في مضمار الإنتاج والتبادل المادي والرمزي، مع معنى الانتقال من المجال الوطني أو القومي إلى المجال العالمي أو الكوني، وذلك في ضمن مفهوم تعيين مكاني جغرافي: وهو الفضاء العالمي برمته، وتعيين زماني تاريخي: وهو حقبة ما بعد الدولة القومية، أي: الدولة التي أنجبها العصر الحديث إطارا كيانياً لصناعة أهم وقائع التقدم الاقتصادي والسياسي، والاجتماعي والثقافي. فالعولمة المتداولة يعني: وصول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتداول، والتوزيع والتسويق، والتجارة والتمويل، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها. وبعبارة ثانية: إن ظاهرة العولمة المتداولة هي بداية عولمة الإنتاج، والرأسمال الإنتاجي، وقوى الإنتاج الرأسمالية، وأخيراً علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً، وترويجها في كل مكان مناسب خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله. فالعولمة بهذا المعنى هي: رسملة العالم على مستوى الصميم بعد أن تمّت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره. ويكون الناتج من هذه التعاريف كلها: ان العولمة حسب قول البعض هو: حرية أصحاب رؤوس الأموال، لجمع المزيد من المال في سياسة اقتصادية قديمة، كانت تعتمد على الإنتاج الذي يؤدي إلى تحقيق الربح، وانقلابه اليوم إلى الاعتماد على تشغيل المال فقط دون خسائر من أي نوع، للوصول إلى احتكار الربح. إن هذا المعنى يتلخص في عودة الهيمنة الغربية من جديد، لكن محمّلة على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح، ومدجّجة بالعلم والثقافة حتى وإن كانت غير إنسانية، وبذلك تقلب القاعدة القديمة القائلة: إنّ القوي يأكل الضعيف، إلى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول: السريع يأكل البطيء، علماً بأن القاعدة الجديدة، لا تختلف عن القاعدة القديمة، من حيث النتيجة، بل تكون هذه الجديدة أشدّ بأساً وأعظم ظلماً من تلك القديمة، لأن أصحاب السرعة يعملون على تثبيط حركة الآخرين بكل وسعهم وجميع إمكانياتهم. إن منطق التطور الرأسمالي يقضي بالتوسع المستمر خارج الحدود، إذ قد انتقلت الرأسمالية من حدود الدولة القومية والاقتصاد القومي، في عملية زحف استعماري سريع، وفرض هيمنة واسعة حتى شملت عالم ما وراء البحار ومعظم مناطق جنوب الأرض لتطال المواد الخام واليد العاملة الرخيصة والأسواق. وهكذا خرج النظام الرأسمالي العالمي من واجهة المزاحمة أو المنافسة الحرة، إلى واجهة الاحتكار وواجهة الهيمنة والاستعمار مع أن الاحتكار والاستعمار من أبغض الصفات التي يمكن أن يتصف بها ظالم وغاشم. وقد ورد النهي عن الاحتكار في الشريعة الإسلامية، قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون»[1]. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «نفد الطعام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره يبيعه الناس، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه»[2]. وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «الحكرة أن يشتري طعاماً ليس في المصر غيره فيحتكره فإن كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل»[3]. وفي الحديث عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يحتكر الطعام ويتربص به هل يجوز ذلك، فقال: «إن كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام»[4]. وعن معتب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) وقد يزيد السعر بالمدينة: «كم عندنا من طعام؟ » قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرةً، قال: «أخرجه وبعه»، قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام، قال: «بعه»، فلما بعته قال: «اشتر مع الناس يوماً بيوم»، وقال: «يا معتب اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطةً فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها ولكني أحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة»[5]. وعن معتب قال: «كان أبو الحسن (عليه السلام) يأمرنا إذا أدركت الثمرة أن نخرجها فنبيعها ونشتري مع المسلمين يوماً بيوم»[6]. أما اليوم في سياق الثورة الثقافية نرى التوسع الرأسمالي يحتل المكان الأسمى من الدعاية والتبليغ، ليفسح المجال أمام هيمنة الأسواق وسياسة الربح وحده، فيطيح بحدود جديدة: الحدود القومية في نفس المجتمع الرأسمالي بعد أن أطاح بحدود المجتمعات المنتمية إلى منظومة الجنوب وما أشبه. ولكن يبدو أن العولمة بمعناها الشمولي أعم من العولمة الاقتصادية ـ وإن كانت ربما هي الهدف الأصلي من عولمتهم الغربية تحصيلاً للأرباح الأكثر والأكبر والأشمل ـ فتشمل أيضاً العولمة السياسية والثقافية والاجتماعية وما أشبه. |