أجناس الشعر
قد تسمى أنواع الشعر أيضًا. وهي تلك القوالب التي استقر الشعر منذ نشأته على طابعها، أو هي الشكل الأدبي الذي ارتضاه الشعراء للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم. انقسمت هذه الأجناس أو الأنواع إلى أشكال أربعة: الشعر الغنائي، الشعر القصصي أو الملحمي، الشعر التمثيلي، الشعر التعليمي.
الشعر الغنائي.
وقد يسمَّى بالشعر الوجداني. وهو يعني ذلك التعبير عن العواطف الخالصة في مجالاتها المختلفة من فرح وحُزن وحب وبغض، وما إلى ذلك من المشاعر الإنسانية. ويعد هذا اللون أقدم أشكال الشعر في الأدب العربي، فقد كان الشعراء القدامى يعبرون تعبيراً خالصًا عن هذه المشاعر الإنسانية وقد يكون هذا التعبير مصورًا لذات الشاعر ومشاعره، كما ارتبط منذ نشأته بالموسيقى والغناء، ومن هنا سمي بالشعر الغنائي.
هذا اللون من الشعر استأثر بطاقة الشعر العربي، وفجر ينابيعها الفنية حين تحوّل إلى موضوعات وأغراض، كالغزل والوصف والحماسة والمديح والرثاء والهجاء والفخر والزهد والحكمة. وقد ترك هذا التوجه للشعر الغنائي ميراثًا هائلاً يتدفق حيوية وجمالاً وهو ماعرف بديوان العرب.
وقد استمرت موضوعات الشعر الغنائي في التعبير عن الذات الإنسانية وعن تقلباتها وعن أفراحها وأحزانها حتى وقتنا الحاضر. ولكن التطور الحضاري والفكري بدل فيها بعض التبديل؛ فلم يعد المدح يدور حول الشجاعة والعدل مثلاً أو يتغنَّى بالعفة والفضائل الخلقية، ولكنه توجه للتغني والتعبير عن وجدان الأمة وبطولاتها ومآثرها القومية كما ينشد التقدم والرخاء ويدعو للحاق بركب الأمم، وهكذا ظلت موضوعات الشعر الغنائي باقية متجددة ولكن في تعبير أقرب إلى حياتنا المعاصرة.
تحول الشعر الغنائي من عاطفته المشبوبة وغزله الصريح ووصفه لمحاسن المرأة إلى فكرة ورؤية ورمزٍ وأُنموذج. وبذلك اتسع مداه ليشمل ما يمور به الكون من تأمل واستبصار، وشوق وحنين، وألم وأمل، وفرح وحزن، وإن ظل الشعر الغنائي أو الوجداني هو سيد التعبير عن عواطف الشعراء غير منازع.
الشعر القصصي أو الملحمي.
يسمى الشعر القصصي أو الملحمي؛ لأنه يدور غالبًا حول معارك حربية، وهو ذلك الشعر الذي لا يعبر عن ذات صاحبه، ولكنه يدور حول أحداث أو بطولات وأبطال في فترة محددة من تاريخ الأمة. كما يمزج الحقائق التاريخية بروح الأسطورة والخيال وتتوارى ذات الشاعر في هذا المقام حين يتناول مادته تناولاً موضوعيًا وليس وجدانيًا. وهو يصور حياة الجماعة بانفعالاتها وعواطفها بعيدًا عن عواطفه وانفعالاته، ولا تظهر شخصيته إلا في أضيق الحدود. كما تعنيه عواطف الأبطال وانفعالاتهم أكثر من عواطفه وانفعالاته الخاصة.
تطول قصائد هذا اللون من الشعر حتى تصل آلاف الأبيات، ولكنها على طولها لا بد لها من وحدة هي حدثها الرئيسي وشخصيتها الرئيسية التي تمضي بالأحداث إلى نهايتها. ثم تتفرع أحداث ثانوية وشخصيات مساعدة.
أقدم ماعرفه تاريخ الأدب العالمي من هذا الجنس الشعري ملحمتا الإلياذة والأوديسة لشاعر اليونان هومر، وموضوع الإلياذة تلك الحرب القاسية بين اليونان ومملكة طروادة، وأما الأوديسة فتصور عودة اليونانيين إلى بلادهم عقب المعركة.
والملحمتان تحكيان ألوانًا من المشاعر المتباينة، من الغدر والوفاء، والحب والبغض، كما تصور أحداثًا دامية عنيفة، وتحكي أسطورة فتح طروادة بهيكل الجواد الخشبي، كما تحدثنا عن شخصيات الأمراء والقواد مثل أخيل و أجاممنون و أجاكس و هيكتور وغيرهم. وبلغت الإلياذة ستة عشر ألف بيت من الشعر على وزن واحد.
وقد عرف الرومان الملاحم على يد شاعرهم فيرجيل حين كتب الإنيادة مستلهماً ملحمتي هوميروس. وموضوعها مغامرات البطل إينياس.
وكذلك عرفت الأمم الأوروبية عددًا من مطولات الشعر القصصي جعلته سجلاً لأحداثها ومواقف أبطالها؛ فأنشودة رولان عند الفرنسيين تصوير لعودة الملك شارلمان منهزمًا في إحدى غزواته، ولكنه بالرغم من هزيمته كان مثالاً للبطولة والنبل. كما عرف الفرس ملحمة الشاهنامه التي تحكي أحداث مملكة الفرس. وكذلك كتب الهنود ملحمة المهابهاراتا في مائة ألف بيت حول صراع أبناء أسرة واحدة على الملك مما أدّى إلى فنائهم جميعًا.
لم يعرف الأدب العربي هذا اللون من القصص أو الملاحم في شعره القديم ولكن في العصر الحديث حاول الشعراء العرب استيحاء التاريخ قديمه وحديثه لتصوير البطولات العربية الإسلامية. فكتب الشاعر المصري أحمد محرم (ت 1945م) الإلياذة الإسلامية في أربعة أجزاء يحكي في الجزء الأول حياة الرسول ³ بمكة ثم هجرته إلى المدينة، كما يتناول غزواته وأحداثها وبطولاتها ويستمر الحديث عن الغزوات والبطولات في الجزءين الثاني والثالث. أما الجزء الرابع فيخصصه للحديث عن الوفود التي قدمت على الرسول والسرايا التي اتجهت إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية.
وقد كتب خليل مطران قصيدة قصصية عنوانها فتاة الجبل الأسود تصور ثورة شعب الجبل الأسود ضد الأتراك. ومحورها بطولة فتاة تنكرت في زيِّ فتى واقتحمت موقعًا للأتراك، وقتلت بعض رجالهم، وعندما أُسرت اكتشف الأتراك حقيقتها فأعجبوا ببطولتها وأَطلقوا سراحها.
وإذا كان الأدب العربي الفصيح لم يعرف هذا اللون من الشعر إلا بقدر يسير، فالأدب الشعبي اتخذ من فن الملحمة لونًا وجد الرواج والقبول؛ فما يزال المنشدون يرددون ملحمة عنترة أبي الفوارس و تغريبة بني هلال وهي ملاحم تؤدي فيها الأسطورة والخيال دورًا مهمًا في تصوير الوقائع والبطولات.
هذا اللون قد قل شأنه في العصر الحديث إذ لم يعد الإنسان تطربه خوارق الأساطير الممعنة بالخيال بقدر اهتمامه بأحداث الحاضر المعبِّر عن واقعه وهمومه وآماله وآلامه.
الشعر التمثيلي.
هو ذلك اللون من الشعر الذي تحكي أحداثه موقفًا تاريخيًا أو خياليًا مستلهمًا من الحياة الإنسانية. ومن أهم خصائصه أن مجموعة من الأفراد تصور هذا الحدث بالحوار بينها وأداء الحركات. وبذلك تتوارى ذات الشاعر تمامًا؛ فهو لا يصدر عن عواطفه وأحاسيسه الخاصة، ولكن عن عواطف تلك الشخصيّات التاريخية أو الخيالية التي يصورها.
عرف الشعر التمثيلي نوعين هما: المأساة التي تصور كارثة وقعت لشخص من ذوي المكانة العالية وتكون نهايتها محزنة إما بموت البطل وإما باختفائه. والملهاة التي تتناول أشخاصًا ليسوا من ذوي المكانة العالية وتحكي وتصور حوادث من حياة الناس اليومية مركزة على العيوب أو النقائص التي تثير الضحك.
اقترن الشعر التمثيلي منذ نشأته بالغناء والموسيقى، ثم بدأ الأداء التمثيلي يبعد شيئًا فشيئًا عن دنيا الغناء حتى انتهى الأمر إلى لونين هما المسرحية التمثيلية والمسرحية الغنائية. وأهم تغيير حدث في هذه المرحلة هو أن المسرحية التمثيلية اتجهت للنثر الخالص وتركت الشعر؛ لأن قيود الشعر جعلت إدارة الحوار بين الشخصيات يبدو متكلّفًا كما أنها تضعف الحركة اللازمة في المسرحية.
من أشهر من كتبوا هذا اللون من الشعر قديمًا سوفوكليس وأريسطوفانيس في الأدب اليوناني، وسنيكا وبلوتس في الأدب الروماني وراسين وموليير في الأدب الفرنسي، وشكسبير وبرنارد شو في الأدب الإنجليزي.
ظل الشعر التمثيلي مجهولاً في أدبنا الحديث حتى أخذ أحمد شوقي بيده فكتب ست مسرحيات شعرية، ثلاث منها تحكي عن العواطف الوطنية الملتهبة وهي مصرع كليوباترا و قمبيز و علي بك الكبير واثنتان تصوران طبيعة الحب والعاطفة في التراث العربي هما: مجنون ليلى وعنترة والسادسة ملهاة مصرية بعنوان السِّت هدى. ثم جاء عزيز أباظة وأكمل ما بدأه شوقي من الشعر التمثيلي فكتب شجرة الدر؛ قيس ولُبنى؛ العباسة والناصر؛ غروب الأندلس؛ قافلة النور.
ثم أخذ الشعراء المعاصرون من المسرح الشعري شكلاً رمزيًا حين اتجهوا له؛ فاستفادوا من طاقة الشعر وشفافيته في تصوير المشاعر والأفكار برقة وحساسية. فكتب صلاح عبد الصبور وعمر أبو ريشة، وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم، مسرحيات شعرية. انظر: عبد الصبور، صلاح. حتى أصبح المسرح الشعري شكلاً فنيًا قائمًا بذاته.
الشعر التعليمي.
لون من الشعر يمزج بين العلم والفن والعقل والخيال، ويحاول أن يقدم الخبرات والتأملات في قصائد ذات حسٍ غنائي، فقد نظم شعراء اليونان في مجالات العلوم والفلك وكذلك شعراء الرومان وبعض الشعراء الفرنسيين.
ولما تحددت حدود العلم عن الفن بدأ الشعر التعليمي يُتخذ وسيلة في أيدي بعض الناظمين ليعين الناشئة خاصة في موضوعات العلوم. وقد عرف العرب منذ القرن الثاني الهجري هذا اللون من الشعر على يدي أبان بن عبد الحميد اللاّحقي، حين نظم أحكام الصوم والزكاة، ومحمد بن إبراهيم الفزاري حين نظم قصيدة في الفلك وإن كان أبَّان اللاحقي هو سيد الشعر التعليمي في الأدب العربي؛ إذ نظمه في مختلف الأغراض مثل سيرتي أردشير وأنوشروان كما نظم كليلة ودمنة.
ونجد في مجال العلوم بشر بن المعتمر. وكذلك في التاريخ ماكتبه الأندلسيان يحيى بن الحكم الغزال في فتح الأندلس وابن عبد ربه في غزوات عبد الرحمن الناصر.