شكل الجفاف منذ 3 عقود تقريبا صدمة كبرى للقطاع الفلاحي، فقد ازداد متوسط درجة الحرارة بدرجة واحدة في 50 سنة، ومر المغرب بخمس فترات جفاف خلال ال30 سنة الماضية: ففي 11 عاما من 1991 إلى 2002 شهدت البلاد 9 سنوات كان معدل الأمطار فيها أقل من المعدل في ال40 الماضية. وقد وصلت نسبة تقلص حجم الأمطار إلى 30 % في الفترة الممتدة من 1978 إلى ,1994 مقارنة بفترة 61 و77.
وزادت فترات الجفاف المتعاقبة في السنوات الأخيرة من الضغط على الوسط الغابوي ومساحات الرعي بالإضافة إلى الفراشات المائية، وهو ما أدى إلى تراجع المخزون المائي، ورغم الإجراءات التي باشرتها السلطات الوصية، فإنها تظل ضعيفة مقارنة بما خلفه تراكم فترات الجفاف من خصاص وخسائر في الموارد الطبيعية، ومن بين مظاهر ذلك التراجع السريع للتنوع البيولوجي بواحات الجنوب جراء الجفاف، بالإضافة إلى انتشار مرض البيوض وزحف الرمال وتدهور الغطاء النباتي...
وقد كان للجفاف، ضمن عوامل أخرى أساسية كالعولمة والنمو الديمغرافي، دور جوهري في التراجع المستمر للإنتاج الفلاحي كماً وكيفاً، ومن أبرز التداعيات السلبية للجفاف التي يمتد نطاقها إلى المدن كما البوادي تراجع المخزون المائي، ومن أكثر جهات المغرب تضررا من ذلك جهة سوس ماسة، حيث انصاف عامل الاستغلال المفرط ليصيب الفرشة المائية بتدهور شديد، لدرجة جعلت بعض المناطق تعاني من حاجة كبيرة إلى الماء مثل منطقة الكردان، كما أن قلة التساقطات جعلت سد عبد المومن يكف عن تغذية المناطق السقوية، وحسب دراسة لوكالة الحوض المائي لسوس ماسة درعة حول حجم الاختلالات المائية التي تعاني منها المنطقة فإن الطابع البنيوي للجفاف أفضى إلى شح المياه الجوفية، فقد تراجع مساهمة السدود بـ 32 % عند مقارنة بين فترة 1997 / 2000 وفترة 1945 / .2000
وفي جهة تادلا أزيلال المعروفة بإنتاجها الفلاحي لن يتمكن فلاحو المنطقة خلال الموسم الفلاحي الحالي من سقي سوى ثلث أراضيهم، وذلك بفعل تراجع حقينة السدود بنسبة تتراوح بين 25 إلى 45 %، وأصبح التقشف في توزيع المخصصات المائية للسقي أمراً اضطراريا، وقد أدى اشتداد وطأة الجفاف مع حلول فصل الصيف الماضي إلى وقوع انقطاعات مستمرة للماء الشروب في مدينة بني ملال، وما ترافق مع ذلك من اضطراب في تزود المنازل وفي نشاط مهن تعتمد على الماء كالمقاهي والحمامات ومحلات غسل السيارات...
هذه التحولات رصدها أكثر من تقرير رسمي داخل المغرب وخارجه، ومن بينها ''تقرير الخمسينية'' الخاص بالفلاحة، والذي يقول إن الخطير في الأمر هو أن ظاهرة الجفاف اشتدت وطأتها ووتيرة ترددها، وأن الدراسات والأبحاث خلصت إلى أنها صارت أكثر ترددا وشمولية للتراب الوطني، وأثقل وطأة ابتداءا من سنوات الثمانينات، ففي بداية القرن الماضي كان تسجل سنة جفاف من بين 11 سنة، لتنتقل إلى سنة من 7 سنوات في الستينيات من القرن العشرين، وصارت في سنوات التسعينيات بمعدل سنة جافة ضمن سنتين.
هذا الجفاف شبه المستديم هو الذي دفع الدولة إلى إلغاء أي ضريبة على الإنتاج الفلاحي منذ بداية سنوات الجفاف في الثمانينات، وفي سنة 1984 كان القرار الملكي بتمديد الإعفاء إلى 31 دجنبر ,2000 ويشمل كل الضرائب المباشرة أو الضرائب التي قد تحدث، ليمدد مرة أخرى إلى العام ,2010 وقد بدأ الحديث يظهر بين الفينة والأخرى حول إنهاء هذا الاعفاء أو تكييفه ليفرض على كبار المنتجين الفلاحين وإبقائه بالنسبة إلى صغار الفلاحين.
مسؤولية الحكومة
إذا كان الموقع الجغرافي والمعطيات المناخية واقعا لا يرتفع، بحيث يوجد المغرب في منطقة شبه جافة، فإن ذلك لا يحجب حقيقة أن سياسات الدولة وتدبيرها للقطاع تتحملان جزء من المسؤولية عما يخلفه الجفاف على الفلاحين، إذ لم يقع التخطيط منذ السنوات الأولى للجفاف في سياسة شمولية تستوعب المعطى البنيوي لهذه الظاهرة على الفلاحة والفلاحين والبادية عموماً. وقد عرف هذا العام جفافا حادا اضطر معه المغرب إلى استيراد جل حاجياته من المواد الفلاحية من الخارج لتأمين تموين الأسواق، وتزامن ذلك مع الارتفاع المهولة التي سجلته أسعار الحبوب عالميا، إذ انتقل سعر الطن من القمح اللين من نحو 210 دولار أمريكي (أقل من 2100 درهم) إلى 420 دولار، وسعر القمح الصلب من حوالي 270 دولار للطن، إلى أكثر من 500 دولار، وذلك ما بين أكتوبر 2006 وأكتوبر .2007
وقد وعدت الحكومة الحالية في تصريحها أمام البرلمان بوضع سياسة فلاحية طموحة ونظرة شمولية لإنعاش الوسط القروي، وتطويره على المدى المتوسط والبعيد، ومراجعة السياسة المتبعة حاليا في القطاع الفلاحي، وبلورة استراتيجية وطنية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التقلبات المناخية والجفاف البنيوي والندرة المطردة للمياه، فضلا عن الانعكاسات التي ستترتب عن الشروع في تطبيق اتفاقيات التبادل الحر، وتحرير سوق المنتوجات الفلاحية على الصعيد الدولي.
إلا أن هذه الوعود الحكومية هي في واقع الأمر خطاب لزمن الجفاف والخصاص، لم يجد له صدى في الواقع خلال ولاية الحكومات المتعاقبة والتي أتت بالوعود نفسها، بل أكثر من هذا ينبه تقرير ''الخمسينية'' إلى ما يمكن وصفه بـ ''الوقت المهدور والجهد المضيع''، إذ ابتداءا من سنوات الثمانينات وبفعل توالي سنوات الجفاف، عمد المسؤولون عن القطاع الفلاحي إلى إنشاء لجنة تفكير لوضح استراتيجية أو مخطط عمل لمواجهة هذا الواقع الجاثم على الفلاحة، وهكذا أعدت دراسات وتقارير تهم تشخيص الوضع وبلورة خيارات لتجاوز المعوقات والاختلالات، وإرساء سياسة لضمان أمن غذائي على المدى البعيد، ولكن سرعان ما تهمل هذه الوثائق والمجهودات بمجرد عودة المطر وتسجيل سنة فلاحية متوسطة أو فوق المتوسطة، فتضاف هذه التقارير إلى جملة الوثائق المهملة في الرفوف، ويغيب التخطيط إلى أن تحل سنة جافة فيعود الحديث كأن شيئا لم يكن من قبل.
ويتذكر الجميع كيف أن الجفاف كان قاسيا في بداية الثمانينات وفي أوائل التسعينيات، وحينها أمر الوزير الأول بإقامة حوار وتفكير وطني حول سياسة للتنمية القروية، وهي في حقيقة الأمر رغبة في إحداث التوازن بعدم ترك البوادي والفلاحين في وضعية هشة بالارتهان إلى نشاط وحيد هو الزراعة وتربية الماشية، بل المطلوب هو تنويع الأنشطة الاقتصادية في البوادي، بغرض التخفيف من وطأة الجفاف على دخل الفلاحين، وتمكينهم من مداخيل تسد بعض العجز المسجل بفعل سنوات الجفاف، ونقص الإنتاجية الفلاحية.
ومنذ أواخر الثمانينات إلى سنة ,2002 أي إبان حكومة عبد الرحمن اليوسفي، نتج عن إعلان الحكومة نيتها وضع سياسة تنمية قروية مندمجة تراعى الخصوصيات الجهوية، وضع ''استرايتجية 2020 للتنمية القروية''، و''استراتيجية تنمية الفلاحة على المدى البعيد''، ولكن الوثيقتين ظلتا حبر على ورق. ومن بين ما خلصت إليه استراتيجية 2020 مثلا، تحديد 4 أولويات هي: تقليص هشاشة المنتجات الفلاحية وضعف الموارد الطبيعية تجاه الجفاف، وثانيا تحسين الإنتاجية وفاعلية القطاع الفلاحي، وتأمين تدبير مستديم للموارد المائية، والمساهمة في محاربة الفقر وخلق الشغل بالبوادي كركيزة لسياسة تنموية قروية.
سياسة قاصرة
يسجل على سياسات الحكومات المتعاقبة إزاء ظاهرة الجفاف وتداعياتها المتعددة المستويات أن كانت إجراءات وبرامج لمحاربة لآثار الجفاف وليس سياسة حقيقية لتأهيل الفلاحة وتنمية البوادي، بما يقلل من هشاشتها وتأثرها الشديد بالجفاف، وكل ما كان ينجز عبارة عن إجراءات استعجالية للتخفيف من وطأة الجفاف وحماية الحد الأدنى من دخل المزراعين على صعيد تربية الماشية. وهو ما أبقى وزارة الفلاحة منشغلة بتدبير الموسمي والظرفي، ونسيان أو تجاهل واجب وضع سياسة متكاملة والتخطيط على المدى البعيد للتأقلم مع معطى الجفاف البنيوي... وهو ما يعني اكتفاءها بمعالجة الأعراض والنتائج، وعدم الانكباب على أصل المشكل وبواعثه...
ومن آخر نماذج هذه ''السياسة الاستعجالية'' ما خصصته وزارة الفلاحة في الصيف الماضي من اعتمادات بلغت ملياري درهم لإقامة أوراش عمل لمحاربة الجفاف، بخلق 12 مليون يوم عمل إضافي، مع تسريع إنجازها من لدن القطاعات الوزارية المتدخلة، كما حددت 359 جماعة قروية هي الأكثر تضررا من النقص في التزود بالماء الشروب (ما بين 30 إلى 70 %).
بالإضافة إلى تدابير لحماية القطيع كتحمل الدولة لتكاليف توفير ناقلات وحاويات الماء البلاستيكية وإعداد وتجهيز أكثر من 200 بؤرة مائية، ودعم مادة مادة الشعير وإعفاء بعض المواد العلفية من واجبات الاستيراد ومن الضريبة على القيمة المضافة، ومباشرة عمليات للحماية الصحية للقطيع. فضلا عن صرف التعويضات للفلاحين المنخرطين في برنامج تأمين منتوج الحبوب ضد الجفاف... كل هذه الإجراءات كانت تتكرر مع كل سنة جفاف ولكنها لم تسلح البادية والمزارعين بأدوات التحصين اللازمة لتقليل تبعيتهم للتقلبات المناخية.
توقعات متشائمة
حسب دراسة مستقبلية للمندوبية السامية للتخطيط فإن التوقعات تشير إلى تفاقم آثار التغيرات المناخية، ففي أفق 2030 يتوقع أن يرتفع معدل درجة الحرارة إلى ما يقارب درجة واحدة، وباشتداد الجفاف وتردده بوتيرة أكبر، وبتصحر العديد من أماكن التجمع البشري في المناطق شبه الجافة كالمغرب... وبفعل تفاقم الجفاف وتناقص معدلات الأمطار، فإن الموارد المائية للمغرب، السطحية والجوفية، ستتراجع بما بين 15 إلى 20 % في أفق .2030