بيداغوجيا الإدماج: صرخة من واد سحيق
كثيرة هي الكتابات التي تناولت موضوع بيداغوجيا الإدماج في السنتين الأخيرتين، و كثير هو المداد الذي سال في معالجة هذه الظاهرة التربوية الحديثة العهد بمدارسنا، لكن أغلبها لا يعدو أن يكون صيحة في واد عميق قد لا تضيف لتجربتنا أو بالأحرى لطموحاتنا التربوية شيئا...
إن احتكاكنا ببيداغوجيا الإدماج عمليا، و محاولتنا الارتباط بكل النصوص التنظيمية التي تصوغها وزارة التربية الوطنية و تتقاطر علينا بشكل مستمر يجعلنا فعلا أمام مواقف تربوبة لا نحسد عليها، هذا ما يحاول سرده علينا الأستاذ :ل- لحسن أستاذ التعليم الإبتدائي بخنيفرة أمدني به و بطلب منه الصديق القاص و الناقد و المسرحي المغربي المعروف حميد ركاطة من أجل نشره و تعميمه ... و ما عساني أفعل خصوصا أمام نص محبوك باحترافية كبيرة أطرح إليكم بكل أمانة ...
بيداغوجيا الإدماج :
صرخة من واد سحيق
لم يثر أي مستجد في الساحة التعليمية، ولدى نساء ورجال التعليم قط، من السخط والنقمة حينا، والرهبة والخوف حينا آخر أكثر مما أثارته بيداغوجيا الإدماج وإفرازاتها، وعلى رأسها نظام الامتحان الجديد. فإلم يعزى ذلك؟ هل إلى مجرد نزعة عصيان وتمرد تبغي وضع العصا في العجلة ليس إلا، أم محض رفض ناجم عن "سخونة بعض الرؤوس"؟ أم أن مبررات موضوعية ومسوغات معقولة وراء ذلك؟ وإذا تم ترجيح الشق الثاني من هذا التساؤل - افتراضا – فما هي يا ترى المبررات القمينة بتبرير هذا السخط كله. وذينك الأخذ والرد والشد والجذب؟ (بين طرفين يجمع بينهما أكثر مما يفرق وأعني بالطرف الأول من هم في أعلى الهرم أي من أوكل إليهم أمر التنظير ورسم الخطط والاستراتيجيات ووضع السياسات التربوية، وهم غالبا – فيما نرى – يصدرون في قراراتهم عن قناعات غذتها سعة اطلاعهم ووقوفهم على خبرات وتجارب بلدان أخرى، وأيضا على التقارير التي تفد عليهم باستمرار وربما زياراتهم إلى الميدان، فضلا عن البحوث والدراسات التي تحت تصرفهم وأما الطرف الثاني فأقصد بهم عامة نساء ورجال التعليم الذين يصدرون في رؤاهم وتصوراتهم هم أيضا، عن تجربتهم في الميدان واحتكاكهم المباشر مع المتعلمين وعراكهم المضني والمتواصل مع الواقع التعليمي – التربوي المرير في بلادنا). ما يجمع بين الطرفين هو مصلحة الطفل أولا وخدمة المجتمع والوطن تاليا وهو هدف نبيل فوق كل خلاف. أما الاختلاف في القراءات والرؤى والتصورات فلا يضير أحدا بل ينفع الكل، بيد أن الأمر يحتاج إلى نقاش هادئ وحوار متواصل بين كل الأطراف، وهذا ما لم يتم قبل الشروع في تبني المقاربة الجديدة أو الاختيار التربوي المستجد.
بعد هذا الاستهلال السريع، وهذه الجولة القصيرة في عالم "التخييل" لنعد إلى المشخص، إلى موضوعنا الأساس ولنحاول بسط ما نراه مبررا معقولا لسخط رجال ونساء التعليم وتضايقهم من "الوافد الجديد" وما نناسل عنه.
وأفصح منذ البدء أنني لن أتحدث عن توقيت إنزال المذكرة 74 غير الملائم ولن عن زعم بعضهم أننا في مرحلة التجريب خلال هذا العام، وأن الأجرأة الفعلية لن تتم إلا بعد أن تتضح الرؤية وتوضع الأيدي على النقائص لتتجاوز، وسوى ذلك من التطمينات، بل سأقتصر على مظهرين اثنين أو ثلاث من مظاهر – الخلل – الذي تثويه ثنايا "الوافد الجديد" تاركا لزملائي وزميلاتي فرصة الإدلاء بدلائهم في الموضوع؛
أما بعد، فإليكم المثلبة الأولى بشيء من التفصيل:
الأستاذ مطالب، بناء على إحدى المذكرات الوزارية بإجراء فرضين في كل مادة خلال كل مرحلة أي 30 فرضا في المستوى السادس على سبيل المثال (30 = 2 × 15 مادة).
تأملوا معي الحالة التالية ( وهي حالة واقعية على كل حال) لأستاذ يدرس فوجين من 78 تلميذا وتلميذة. في هذه الحالة على الأستاذ تصحيح 2430 ورقة امتحان في كل مرحلة من المراحل الأربع. نفس الأستاذ عليه إنجاز 12 وضعية إدماجية أي ما مجموعه 936 ورقة امتحان، مع مراعاة الدقة التي تفرضها معايير التصحيح (الملاءمة – الانسجام – الاستخدام السليم للموارد – الجودة) في كل تعليمة من التعليمات الثلاث على حدة، في كل مرحلة. النتيجة المتوقعة أمام هذا الوضع: ستتخلل السنة الدراسية الكثير من الوقفات لإجراء الفروض أو إنجاز الوضعيات الإدماجية مما سيحول بين الأستاذ وبين إرساء الموارد، خصوصا وأن البرامج لم يطلها – لحد الآن – أي تعديل كيما تتلاءم والبيداغوجيا الجديدة وما تناسل عنها. هذا أولا، أما ثانيا – وهو أبشع-، فتصحيح هذا الكم الهائل من الأوراق يعد عملا مضنيا وشاقا وشبه مستحيل بالنسبة للأستاذ، خصوصا وأنه مطالب بتفريغ نتائج الوضعيات في شبكات معقدة وتفييء التلاميذ والتدخل لمعالجة التعثر حيثما لوحظ. كما أنه سيكون مطالبا بإيداع الوضعيات وصياغتها بنفسه بعد نحو عامين من الآن. وإذا أضفنا إلى هذا كله تصحيح حوالي 312 ورقة إنشاء في كل مرحلة وإعداد الدروس وتصحيح دفاتر التمارين ومراقبة دفاتر الملخصات والفروض البيتية، وتفعيل عشرات المذكرات – إن لم أقل المئات – التي تمطرنا بها مختلف مديريات الوزارة الوصية والتي تقضم مما تبقى لدينا من وقت قسطا لا يستهان به نقضيه في اجتماعات "ماراطونية" لا تنتهي، ناهيكم عن جملة من المهمات الجديدة المنوطة بنا من قبيل تعبئة كراسات التتبع الفردي لكل تلميذ وتوزيع الكتب المدرسية على المتعلمين في بداية كل عام دراسي وجمعها في آخر السنة وإعداد القوائم في كل وقت وحين، بالإضافة إلى تنشيط النوادي المدرسية والخلايا المستحدثة أخيرا، كخلية اليقظة، ولا يخفى على أحد ما يحتاجه ذلك من عقد الاجتماعات ومن نقاش وجدال يزيد ضغطا على أعصابنا المضعضعة بفعل الأوصاب والأعباء التي تتأبى الجبال حملها، وغير ذلك كثير وكثير جدا مما سيؤثر، لا محالة على قدرتنا على التحمل وعلى سلامة جهازنا العصبي بسبب حرماننا من حقنا في الراحة الضرورية لتجديد نشاطنا، كما أن ذلك سيؤثر على علاقتنا بباقي أفراد أسرنا وسيضعنا بالتالي، في خانة "نظام الرق الجديد"، وقد ينتهي بنا في أحد مارستانات الأمراض العقلية – لاقدر الله – أما العيب الثاني – في تقديرنا – فهو كالآتي:
إن تفييء المتعلمين – منذ أول اتصال لهم بالحياة المدرسية – إلى فئات ثلاث من شأنه أن يؤثر على الصورة الذاتية وعلى التقدير الذاتي عند بعضهم وأن يفقدهم الثقة في النفس وقد ينمي لديهم عقدة النقص التي ستلازمهم طوال حياتهم، وللتدليل على ما أقول. لكم أن تتصوروا معي تلميذا قدر له أن يصنف في الفئة (ج) لخمس أو ست سنوات متتالية بسبب محدودية ذكائه أو لعلة في حواسه أو بسبب تفكك أسرته أو أي سبب آخر من أسباب التعثر الدراسي التي لا يسمح المجال بالخوض فيها، فما هي – ياترى – الصورة التي سيكونها هذا الطفل عن نفسه؟ ألا يقوده ذلك إلى تبخيس ذاته؟ ألا يجعل منه إنسانا فاشلا طوال حياته بسبب الصورة السلبية عن الذات التي رسختها المدرسة في نفسه جراء هذا النظام العجيب للامتحانات؟ إذ كما قال أرسطو يوما: "كل أزهار الغد متواجدة في بذور اليوم، وكل نتائج الغد متواجدة في أفكار اليوم" والفكرة التي كونها الطفل في الحالة التي نحن بصددها هي كونه إنسانا فاشلا ولكم أن تتصوروا النتيجة التي سيؤول إليها غدا. هذا ناهيك عن نظرة زملائه في الفئة (أ) إليه. فمن يضمن أنهم لن يطلقوا عليه لقب "الفئة ج" نبزا ومعرة واستنقاصا. وما أثر ذلك عليه حالا ومستقبلا؟ ألا يقوده ذلك حالا إلى مغادرة المدرسة فنسقط في مطبة الهدر المدرسي. أما حاله غدا فهو أسوأ. وإن هذا كله من عظائم الأمور التي ينبغي أن نفطن إليها قبل فوات الأوان.
بعد فراغنا من تفكيك "جبل" المهمات الصعبة المنوطة بالأستاذ، عرجنا على تداعيات التفييء – كما جاءت به المذكرة 74 – على نفسية الطفل أما الآن فسنختم بإثارة نقطة أخرى أثارت انتباهنا منذ بدأ التلويح بقدوم "البيداغوجيا – البلسم" ، وهذه تفاصيلها:
يستفاد من خلال تصفحنا للخلفيات التربوية التي استند عليها من رأوا في بيداغوجيا الإدماج العلاج الشافي لكل أدواء التعليم ببلادنا أن مشكل التلميذ المغربي هو تلقينه تعلمات مجزأة، لم تمرنه المدرسة على دمجها واسثمارها في حل المشكلات الحياتية التي تعترضه في معيشه اليومي. وعليه وجب تدريبه على حل وضعيات – مشكلة خلال الأسابيع التي تتوج المراحل الأربع التي قسم لها العام الدراسي بمقتضى النظام الجديد، وأمام هذه المشكلات يستنفر المتعلم كل معلوماته السابقة، ويستدعي الموارد المرساة، ويدمجها كي يحل الوضعية التي أمامه، وإننا إذ نحترم هذا الرأي ونرى أنه يصلح فعلا لفئة من تلامذتنا، فإننا كممارسين تربويين، نرى كذلك أن نسبة كبيرة من أطفالنا يعانون ضعفا معرفيا كبيرا وليس لديهم ما يدمجونه أو يجزئونه، بل هم في مسيس الحاجة إلى مقاربات أخرى سوسيولوجية، نفسية، اقتصادية وتربوية تروم بالأساس انتشالهم من وضعهم المعرفي المزري ومن (مأزقهم الوجودي على حد تعبير مصطفى حجازي. والذي يحيرنا أمام هذه الفئة هو كيف نخلق لديهم بعض الرغبة في التمدرس وكيف نزرع في قلوبهم بعض الحب للمدرسة التي أداروا إليها ظهورهم بعد أن عجت حاراتهم ودورهم ب "المنتوج الكاسد" لهذه المؤسسة، وبعد أن خبت جذوة الحماس لدى أسرهم وذوت سمعة المدرسة حين لم تعد أداة للترقي الاجتماعي بل معملا لتفريخ العاطلين، ولقد زاد الطين بلة، انحسار دور باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية وعلى رأسها الأسرة التي صار هم أربابها هو عمل المستحيل من أجل تحصيل لقمة العيش أمام تيار الغلاء الجارف وتعقد الحياة، والإعلام الذي انشغل بكل شيء، عدا الإسهام في التربية والتثقيف وتنوير العقول أما المجتمع فقد "داخ" بسبب خليط القيم التي توافدت عليه من كل حدب وصوب ولم يعد يدري أين يولي وجهه، وغير هذا كثير وكثير، نترك لغيرنا فرصة تناول جزء منه.
والسلام
إعداد: ل. لحسن
أستاذ التعليم الابتدائي
خنيفرة